كان حولها البشر يمشون ويقفون يتكلمون ويبتسمون منهم الغافل عن الطريق منهم من يتكلم في هاتفه المحمول منهم من يسير مسرعا منهم العبوس ومنهم السعيد وكعادتها جالسة في نفس المكان تراقب الناس كانت تأتي الى الميدان يوميا ليس لأنها تعمل بالمجمع وليس لأنها تحب الميدان ولكن شعورها القاتل بالوحدة يجعلها دوما تأتي هنا لتجلس بين اكبر بقعة بها حركة في مصر تراقب الموظفين والمواطنين والطلبة حولها فتشعر بالامان
كانت قد تخطت حاجز الستين منذ سنوات وخوفها الدائم من ان تموت في شقتها فلا يشعر بها احد لانها منطوية ذلك الانطواء الذي جعلها بدون اصدقاء او اهل مما حثها عن مراقبة البشر فقط
في الايام الماضية حين كانت تأتي للميدان كانت هناك ثورة وازدحام شديد كانت تأتي ليس ايمانا منها بالثورة بل لانها اعتادت ان تقبع في مكانها هذا وهو روتين الحياة الذي تعودت عليه لم تهتم كثيرا بهتافهم او تفهم لماذا يثورون بل كانت تريد ان تبقى بين الناس حتى ان ماتت وجدت من يدفنها تجلس هنا يوميا تراقب ايام عمرها تسقط ورقة وراء ورقة كانها شجرة يابسة
ليس لها رصيد في الحياة الا ذكرى والدتها
والدتها ذات الاصول التركية سليلة البشوات كانت دوما تحدثها عن جدها الباشا وقصوره واطيانه واراضيه حتى قامت ثورة يوليو وجاء عبد الناصر فامم البلد واخذ اراضيهم كانت تسمي تلك الثورة بالسرقة لانها سرقتهم ولم تبق او تذر من ممتلكاتهم
كانت حكمت لديها اربعة اعوام حين حدث ما حدث لا تعرف ولا تفهم ولا تفقه ما يحدث حولها
ورحل الباشا خارج البلاد هربا يحمل ما تبقى من ثروته تاركا ابنته تعاني وحدها مع زوجها وابنتها تغيرت معاملة اباها لوالدتها بعد ان فقدت كل ممتلكاتها وهجرها نعم فما كان زواجه الا عن طمع في تلك الممتلكات
ومرت الاعوام قاسية على حكمت وامها وكل يوم تزرع في قلب ابنتها ان الثورة والمصريين قد نهبونا وهم السبب في كارثة الحياة التي نواجهها وحيدتين
تكاد تذكر حكمت كيف كانت فرحة امها وضحكاتها المتواصلة حين انتكس الجيش المصري في 67 كانت تقول ان هذا ذنبنا يا ناصر اصولها التركية المتعمقة واحساسها بالاهانة والضياع انساها من هو العدو الحقيقي ولكنها لم يكن يعنيها من العدو منذ متى وهي وطنية هي سليلة البشوات كانت تعيش بالقصور لا تعرف غير دعة الحياة لا تفهم ماذا تعني اسرائيل لكنها تعرف ماذا يعني ناصر
زرعت في روح ابنتها ان الرجال لا يحبون النساء انما يتزوجهن طمعا سواء في الحسب والنسب او الجمال لذلك رفضت الام كل خطاب ابنتها تاركة اياها بلا زوج حتى من رضيت به حكمت وطلبت من امها ان توافق عليه قالت لها لا يوجد شيء في مصر اسمه حب فقط طمع وان الرجال في مصر انتهوا قديما ولم يبق منهم احد
بينما يمر ذلك الشريط امام عينيها وتشعر بامها تحدثها وتخاطبها لتزرع بداخلها تلك المشاعر الغريبة وجدته نعم وجدت المعطف ملقى على اطراف الطريق حملته ونظفته واعاد اليه ذكرى اخرى ذكرى حين كانت امها دوما تخرج لها ذلك المعطف الذي اعطته جدتها لها في المرة الوحيدة التي زارت فيها اسطنبول وكانت تحدثها كيف توسلت لضابط الحراسة ان يتركه لها قائلة انه هدية غالية علي من جدتي
كانت كل يوم تخرج المعطف وتشم رائحته الذكية لكي تتذكر ايام صباها وسعادتها وتحدث حكمت عنها نعم حدثت حكمت عن اسطنبول وعن روعة اسطنبول وعن جمالها الدائم وان اسطنبول هي ام الدنيا الحقيقية وهي جنة الله في ارضه وهناك اهلها الحقيقيون ولم تكن لتشعر بالوحدة هناك سألتها حكمت : لماذا لم ترحلين مع جدي الى هناك
الام : من اجلك انت بقيت
حكمت: هل انا اهم لديك من اسطنبول
الام : بالتاكيد
حكمت : كم احبك يا اماه اتمنى ان يكون لدينا المال في احدى الايام لنعود لاسطنبول
والآن بعد ان وجدت المعطف وان لم يكن هو نفس المعطف لكن يشبهه الى حد كبير اعاد اليها تلك الذكرى حين باعت امها معطفها الاسطنبولي حين مرضت حكمت مرضا شديدا ولم يكن لديها المال لعلاجها كانت تشعر بحسرة امها وهي تبيع المعطف ولكنها اهم عندها من اسطنبول
ارتدت المعطف كمن يرتدي الذكريات ويحاول ان يملأ انفاسه منها ولا يعود للحياة امسكت بتلابيب المعطف كأن الجو قارص البرودة بالرغم انه كان يوما حارا من ايام القاهرة بدأت تشعر انها في اسطنبول ويتجسد عليها ما قصته لها والدتها
رأت قصرا منيفا يجاور البحر الازرق الصافي رأت الكثير من الخدم يسهرون لراحتها ويفعلون ما تأمرهم به رأت الموائد والولائم والحفلات رأت رجال اسطنبول كما كانت تحلم بهم دائما فالرجال في مصر قد ماتوا منذ القدم ولا يوجد رجال الا في اسطنبول هكذا قالت لها والدتها رأت بينهم فارس احلامها الذي ستمنح له نفسها بعد ان صارت مجرد دمية بلا قلب او روح في مصر ستجد قلبها في اسطنبول رأت اخيرا امها تضحك بعد ان فارقتها ضحكتها امدا بعيدا شعرت بالسعادة والهناء والمعطف يملا جسدها سرور وحبور فتضمه اكثر على صدرها وانتشت حتى غابت عن الوعي فسقطت من على الاريكة الجالسة عليها في الميدان
فرآها بعض الشباب الذين تعودوا ان يأتوا يوميا للميدان كي ينعشوا ذاكرتهم بالثورة ويبقون يحيون مجد تلك الايام نظر الشباب بعضهم الى بعض هل يعرفها احدكم ؟
قال احدهم : نعم كنت اراها كل ايام الثورة تأتي للميدان كما انه بعد ان هدأت الامور كانت تأتي وتجلس هنا بالساعات
- اذن هي ثورجية والله لن نتركها حتى تقوم بالسلامة
تعجب الشباب من ذلك المعطف الذي يغطي جسدها في ذلك اليوم الحار فموجة الحر تجتاح البلاد فنزعوا عنها المعطف وحاولوا ان يعيدوا لها التنفس حتى اتت سيارة الاسعاف
وحملوها الى المستشفى وذهبوا جميعا معها وحين فتحت عينيها ووجدتهم سألتهم : من انتم و اين انا؟
- نحن ابناؤك وانتي في المستشفى
نظرت اليها احدى الفتيات قائلة : اماه الا تعلمين ان ارواح المصريين اصبحت باهظة الثمن ولن ندعها ترحل بسهولة مادمنا نستطيع حمايتها
كانت حكمت تستمع لهذه الكلمات كأنها تسمعها لاول مرة لم يخاطبها احد باماه من قبل ولم تعرف انها مصرية ولم تشعر بمصريتها ابدا ففكرتها عن مصر انها بلد الرجل الواحد الاوحد قديما كانت مصر ناصر فاصبحت مصر السادات ثم اخيرا مصر مبارك
ان اختلفوا في بعض الفروع فقد اتحدوا في اساليب القمع والديكتاتورية حتى انها لم تشعر بذلك الفارق عن مصر في كل حين لكن تسمع ان بعض الناس يفضلون ايام ناصر وبعضهم يفضلون ايام السادات لكن الغالبية العظمى تكره مبارك دون ان تعرف سبب كل ذلك فهي لا تغادر حياتها الخاصة ولا تهتم بشئون الناس فقط تراقبهم فلا يعنيها ذلك في شيء
لكنهم الآن يقولون ان روحها باهظة الثمن وهذا كلام خطير وغريب لم تشعر ابدا ان روحها باهظة الثمن الا الآن
نظرت الى الفتاة قائلة : شكرا لك يا بنيتي اخيرا أشعر بأن هناك من يهتم بي
ابتسمت الفتاة قائلة : كلنا نهتم بك يا اماه لكن اخبريني كيف ترتدين مثل هذا المعطف في ذلك الجو الحار
انتبهت اخيرا الى ان المعطف ليس موجود فسالت عنه اخبروها انهم نسوه ملقى على ارض الميدان وسيذهبون للبحث عنه والاتيان به
لكنها استوقفتهم قائلة : دعوه ربما يجد ملاذه الحقيقي ويدخل السعادة في حياة احدهم
اغمضت عيناها هذه المرة لم تحلم بانها تلهو بالقرب من مضيق البوسفور ولا انها تزور أيا صوفيا مع فارس احلامها ولا انها تملك القصور المترامية في كل ارجاء المدينة لم تحلم بوالدتها تضحك وتبتسم فقط حلمت بشيء آخر حلمت بانها جالسة على الكورنيش تتأمل النيل الصافي كقلوب الشباب الصافية الذين يعيشون على ضفتيه
بقلم الكاتب الرائع مصطفى سيف
بقلم الكاتب الرائع مصطفى سيف