مد يده بجوار الشجرة الكبيرة ليرى ماهذا الشئ الذى لفت نظره من بعيد ؟ إنه معطف نسائى غالى الثمن ؟ لمن هذا المعطف ولماذا تركته صاحبته فى هذا المكان؟ سؤال خطر على بال سمير وهو يمسك بالمعطف متأملا فيه، إن رونقه وخامته ودقة التفصيل تدل على إرتفاع سعره وقيمته الكبيرة ! ماذا يفعل به ؟ لحظة أخرى حتى تهادت على رأسه فكرة!! قد يحتاجه حقا لما يخطط له، سيضعه فى السيارة حتى يرى ماهو فاعل.
خرج من السيارة الأجرة التى يعمل عليها لحساب صاحبها الجشع مرة أخرى بعد وضع المعطف على الكرسى الخلفى ، خرج يدخن بشراهة وعصبية .. بداخل تلك القاعة الأن حفل زواج الأستاذة هالة ، تلك الصحفية التى وقفت بجواره وبجوار عائلته فى محنتهم مع المرض والفقر ، فوالده يعانى من فشل كلوى مزمن ويحتاج للعلاج المستمر ، لم يساعدهم أحد فى هذه الدنيا أو هذا المجتمع الحقير غير هذا الملاك الذى يسمى هالة.. وقفت بجانبهم وتبنت مرض الوالد ونشرت قصته ليعطف عليه المسئولين بحقه فى العلاج، هؤلاء الذين طالما رفضوا طلبات علاج والده وطردوه من مكاتبهم .
هالة .. هل تدركى قدر حبى ، هل شعرتى بى ولو للحظة .. أجزم أنه لاأحد فى هذه الدنيا يحبك مثلى أو يستطيع إسعادك .. هل نسيتى الليالى التى كنت أناجيكى بطولها حبا، وأحاديث السمر العذبة المتبادلة بيننا ؟ فلكم أعشق تلك الإبتسامة ، ولكم يهتز قلبى بضحكتك الجميلة البريئة النقية.. نعم حبيبتى ، فأنتى كائن مختلف عن بشر هذه الدنيا الظالمة ، أنتى ملاكى الذى أنام على صدره كل ليلة فى أمان وطمأنينة .
لحظة أخرى حتى أفاق سمير ليبتسم لنفسه ، فهو يدرك أنها مجرد أحلام وهلاوس يحيا بها كل ليلة بعد أن يدخن تلك السجائر الملفوفة فى أخر يومه المرهق الكئيب.. كانت تأتى له فى أحلامه لتعيش معه لحظات من الحب والهيام ، يتخيلها كما يتمنى كل ليلة ، تلبس له أجمل الثياب وتتقرب له بأحلى الكلمات.. لكنه يشعر حقا أنها تحبه لاخيال ، ألم تكن تبتسم له كلما تراه يقف عند عملها متحججا أنها صدفة مروره فى هذا المكان ليوصلها، ألم تهديه يوما وردة حمراء مازال محتفظا بها حتى الأن ، ألم تسعد بأغانى الحب التى كان يسمعها من كاسيت التاكسى مع كل مرة تركب معه.. إنها حقا تميل له بقلبها الطاهر وتحبه، لولا ظهور نور المنهدس زميل الدراسة القديم ليضحك عليها ويخطف قلبها منه.
نعم إنها نفرت منه من أسبوعين حين علم بأمر تخطيطها للزواج فأعترف لها بحبه ، أنكرت أى عاطفة منها نحوه ، لكنه متأكد من كذبها وحبها له ، أم كانت تلهو به وبأحاسيسه ؟.. أبدا لن يتخلى عن حلم حياته ولن يتنازل عنها مهما كان.. وقف يتأمل الزفة من بعيد وعينيه مملؤة بالدموع ، تلك الدموع التى بدلت حبه وإشتياقه لها تصميما على إمتلاكها بعد ذلك.. عاد للمنزل وبين يديه المعطف الذى وجده ليضيفه إلى غيره من الملابس التى إشتراها وأعدها سابقا لهدف فى رأسه وخياله.
تمر الأيام ثقيلة عليه بعد زواجها وهى لاتخرج إلا نادرا من المنزل الجديد ، حتى وإن خرجت يكون معها زوجها يتبادلان الحديث والضحكات ، تتأبط ذراعه وإبتسامتها لا تفارقها ، وسمير يزداد جنونا وحقدا وتصميما : إما أن تعود إليه أو ينتقم لقلبه الجريح.. راقبها حتى رجعت إلى عملها ووقف ينتظرها أمام باب الجريدة ، خرجت وقت الإنصراف مسرعة فى خطواتها الرشيقة كما يعهدها ، لتجده أمامها فجأة بلا إنذار.
نظر لها وهو يبتسم قائلا:
- مبروك ياأستاذة ، ربنا يسعدك كمان وكمان مع الباشمهندس.
- الله يبارك فيك ياسمير .. عبقالك إنشاء الله .
ردت عليه بإقتضاب وهى تتذكر أخر لقاء لهما وموقفه الغريب السابق بفرض حبه عليها ، واستعدت لمغادرة المكان مسرعة فى الإتجاه الأخر.
تمهل سمير قليلا قبل أن يسألها بلهجة هادئة وواثقة:
- حضرتك مش راجعة البيت ، أوصلك وأكلمك فى موضوع.
- أيوة فعلا ، لكن لى بعض المشتروات قبله.
- معلش أوصل حضرتك ، حتى أعتذرلك عن كلامى اللى ضيقك قبل كدة.
لم يمهلها وقت للرد بعد كلماته بل واصل حديثه وهو يفتح لها باب السيارة :
- حضرتك ليكى فضل كبير عليا أنا وأهلى ولازم أتأكد إنك مش مضايقة منى ، وفى كل الأحوال هاتحتاجى تركبى تاكسى، وأنا موجود تحت أمرك كأى سائق.
ركبت معه وهى مترددة ومتحيره فى أمره، ولكنها تمنت أن يعتذر عما بدر منه لينتهى هذا الحوار المزعج برأسها ، وهل طيبتها وتفانيها فى خدمة المحتاج تصل بها لهذا الطريق.. دقائق مع إعتذار وكلمات من سمير تدل على ندمه عما بدر منه وعن فهمه الخاطئ بحبها له وتقديره هو وعائلته لها حتى ظهر جنوحه عن الطريق الصحيح لمنزلها، وما إن نظرت إليه وسألته فى خوف ورعب عن سبب سلوكه هذا الطريق ، لتجده ينظر لها شررا وذعرا ويضربها بألة على رأسها ففقدت الوعى فى الحال.
عادت لوعيها لتجد نفسها مقيدة الأيدى فى مكان مظلم لاترى منه غير ضوء خافت من بعيد، وعلى فمها شريط لاصق يمنعها من الصراخ ويعيق تنفسها أيضا.. لحظات إسترجعت فيها ماحدث ، ولكن ماهذا المكان ؟ وأين سمير وماذا يخطط لها؟ أتلك مكافأتها بعد مساعدتها لتلك العائلة؟ كانت تظن أنه عملها وواجبها تجاه المجتمع !! هل أخطأت بالمعاملة الحسنة لأمثال هؤلاء البشر ؟ هل تستحق مايحث لها حقا ؟.
لحظات أخرى بين الخوف والحيرة حتى أضيئ المكان وظهرت معالمه ، تلفتت على صوت سمير وهو يصيح فيها:
- تخيلتى أنى سأتركك لهذا المهندس الذى ظهر فجأة.. كنتى لى من أول لحظة رأيتك ، فأنا أحتاجك ولا أستطيع العيش بدونك. . أحبك وأعشقك وأراكى حياتى كلها.
وقف وهو يترنح قليلا غير متزن ليقترب واضعا يده على كتفها يهزه مرددا : أحبك .. أحبك .. أحبك .. يقولها وهو ينظر فى عينيها لا يفارقها ، لتنزل على خده دموعه وهو ينتحب بشكوى حبه لها ليفاجأها بصوت جهورى مرة أخرى :
- جئت بكى لهذا المنزل البعيد عن المدينة، فهذا البيت لأحد أصدقائى أخذته لنختلى فيه ومعنا أيضا الشراب ولفافات كثيرة ندخنها ونسعد بوقتنا سويا.
أدارت رأسها عنه رافضة لمعانى حديثه، متوسلة له بعينيها أن يفكها ويزيل عنها مابها.. إقترب منها ليزيح اللاصق عن فمها لتتحرر منه وهو يقول:
- لاتخافى وهدئى من روعك.
لم تصرخ حين إستطاعت النطق ، بل حمدت الله بصوت منخفض وبدأت تحاوره بشئ من الهدوء والحكمة:
- لم أضرك من قبل ، بل حاولت المساعدة وعاملتك كأخى .. هل أستحق منك هذا؟
- أنا أيضا لاأبغى ضرك ، إنما قلبى المحب والعاشق لكل خلجة منك.. كم من ليلة أعيشها فى حلم معك ؟ أنتى ملاكى الذى أعيش به حياتى وسأموت بدونك.
نظرت إليه وقالت بصوت خافت إختلط فيه اللوم بالحنان:
- ماذنبى فى حبك ؟ وأنا لى زوج ينتظرنى وحياتى المختلفة بين أهلى وعملى!!
- لكنك كنتى تحبينى وتأتى لزيارتنا ونتحدث ونضحك كثيرا ، كنت أراك سعيدة بما أقول وماأفعل.. فى عينيك رأيت تشجيعك لى وحبك وحنانك علي وعلى أسرتى.
- أبدا.. هو وهم عشت فيه وتماديت فى أحلامك الكاذبة ، فأنا أحب زوجى من سنين وكنت أنتظره حتى يعود من عمله البعيد لنتزوج .
أرتفع بصوته وهو يتجه نحوها من جديد محاولا التماسك وعدم الوقوع :
- لامعنى لكل تلك الكلمات فأنتى لى .. لقد أعددت هذا المكان لنا وإشتريت لكى كل ماتريدى حتى لانخرج من هنا أبدا.. أنظرى لهذه الملابس الرائعة، هى لكى إشتريتها من أغلى المحال وأفخمها.. هذا المعطف الجميل، كأنه صنع لأجلك فقط ،فلاتستحق سواكى أن ترتديه.
- لايمكنى هذا ولن نفعل.. كأنك تحولت إلى شيطان ، وهذا ماتشربه يسيطر على عقلك فلا تعى فعلتك ولاعواقبها.
إزداد غضبه وإنفعاله عليها وأمسك بيده المعطف معطيه لها ومحذرا:
- ستفعلى ماأطلبه دون نقاش ، وسترتدى هذا المعطف لأراكى فيه، وستشربى معى ماأشربه لنقضى معا ليلة كما أريدها.
- حسنا .. سأفعل ماتريد ولكن بعدها ترجع بيى للبيت لنرى ماذا نفعل فى المستقبل.
قالتها وهى تنظر إليه بحذر وخوف محاولة إخفاء ماتسعى إليه.
إبتسم سمير لما قالت وشعر أنها إستجابت له أخيرا ، ستكون ليلة ولا ألف ليلة كما يقولوا.. فك معصمها من القيد وناولها المعطف لترتديه أمامه كما أمرها.. جلست معه وهى ترتدى ذلك المعطف وكأنه شوك على جسدها ولكنها ماذا تفعل؟ .. تظاهرت بأنها تشرب معه وتجاريه فى حديثه، وهو لشدة إعياءه وإرهاقه وشرابه لايدرك مايحدث ليزداد بعدا عن الواقع .. تضعف قدمه عن حمله وإتزانه ، تثقل جفونه ويتوه عقله شيئا فشيئا حتى أدركت هالة أنه الوقت المناسب للخلاص منه.. ضربة شديدة على رأسه بزجاجة كانوا يشربوا منها وقع بعدها مغشيا عليه.
خرجت مسرعة إلى الطريق .. تبحث عن أى سيارة عابرة لتركب فيها مقتربة من عمار المدينة.. نزلت من السيارة تبحث عن أى تليفون أو أقرب قسم للشرطة .. وهى فى طريقها نظرت لنفسها لتجد هذا المعطف مازال عليها.. كم تكرهه وتكره صاحبه الذى أعطاه ، تخلعه بسرعة وترميه بعصبية على مرمى البصر.