الأحد، 25 سبتمبر 2011

إدمان القيد 20


ادمان القيد

كعادته وككل يوم يسير بين الطرقات يستحث البشر ان يحسنوا اليه , كم هو مرهق فذلك العمل ارهاقه النفسي اكبر من ارهاقه الجسدي .
الالحاح  هو السر الذي يفتح لك الجيوب المغلقة فقط اعد كلماتك مرارا ادعو لهم  ذكرهم بأن صدقاتهم تطهرهم  قل لهم ان ما تعطوه قليلا ستجدوه عند الله كثيرا .
هكذا حاله كل يوم يرهق نفسه في الاستعطاف فاذا غلبه التعب جلس بجوار المسجد ينتظر الخارجين من الصلاة قبل ان يرتمي ملقى امام المسجد كهيئته الأولى التي كان عليها في اول يوم في حياته يذكرونه به عندما يقولون له انه وجد ملقى  بجوار المسجد لا يعرفون له ابا ولم يروا له أما فصار وحيدا في الطرقات , طوال حياته يستحث مال المحسنين ويستحث  منهم الحنان والعطف أكثر  . اعوام طويلة مرت على هيامه بالطرقات يجمع المال ولا يصرفه  او يستثمره فقط كان يستشعر العطف في قلوبهم  كان يريد البقاء بين البشر فهو يعلم ان مثله لن يتزوج امرأة طيبة و لن يستطيع ان يكون ربا لاسرة  كريمة, فمن ترضى بشحاذ  لا اصل له ؟. لذلك  ادمن حياة الشحاذة بالرغم انه يملك الكثير والكثير من المال الذي يشتري به الذهب من منطقة مجاورة كي لا يرونه اهل منطقته ويكتنز الذهب  في مكان لا يعلمه الا اياه ولا يستثمره او يزهد فيه لم يكن لبس الخيش و النوم بجوار المسجد  علامات للزهد والورع قصد بها التقرب لله ولكن  علامات له ليخدع به المحسنين ويستدر عطفهم والاغرب انه كان يقنع نفسه دوما  انه يفعل الصواب , و لما لا؟  اليس هو من يستدر عطف الناس ليحسنوا اليه فيثابوا لذلك وتتطهر اموالهم ويبارك لهم في رزقهم  أليس هو من يحيا حياة الذل من اجل ان يكون البشر ربانين يتقربون لله  عن طريقه فيمنحونه مما رزقهم الله؟
غريب امر ذلك الشحاذ لم يكتف بمخادعة الناس  ويقنعهم انه فقير معدم لكنه بحث لنفسه في صالون المجد عن مقعد واقنع نفسه انه يملك اريكة كاملة وليس مجرد مقعد عادي وكان ذلك يحثه على مواصلة عمله بلا تعب, ومرت الايام قاسية حزينة بطيئة  لكن يكفيه ان يرى نظرة حنان واحدة في اليوم لتنسيه كل ذلك ربما كلمة طيبة واحدة تكفيه اياما
وفي احد الايام  كعادته بعد صلاة الظهر القى نفسه على باب الجامع ليذهب في نوم عميق لم يكن يشعر ببرد ولم  يهتم لامر رياح تعتريه فتزيح عنه بقايا الخيش الذي يرتديه نام ولم يهتم بشيء ليشعر بالعرق يملأ وجهه فيستيقظ ليجد ذلك الشيء ذو الملمس الفرائي الغريب  على جسده ينظر اليه بتعجب  ما هذا ولماذا على جسدي نظر حوله بحثا عمن تركه ولم يعرف من  فعل ذلك
نظر اليه متعجبا ذلك المعطف يالتأكيد باهظ الثمن هذا الفراء طبيعي من يمكن ان يتصدق بكل ذلك؟  لم يكن الحاحي مصدره من يمكن ان يعطف على مسكين يرتدي الخيش ومسجى بجوار مسجد بكل تلك الثروة  و دمعت عيناه وتذكر ذلك اليوم الذي كان يستدر عطف أحدهم  فرأى نظرة الحزن في عينيه كأن الدنيا كلها بكل مشاقها تكالبت عليه  لكن ذلك لم يمنعه ان يتصدق عليه في هذه اللحظة كم تمنى ان يفعل العكس ان يفضح سره ويخرج كنزه  ليعطف على محسنه الحزين ويعطيه بعض المال لكنه لم يجرؤ وقتها لذلك
كان يظن ان ما يفعله الصواب وانه مجرد آلة لتدر على من يديرها الحسنات لكن الآن اكتشف انه كان انانيا طوال الوقت  ووجب عليه ان يتطهر من كل الاعوام الماضية  جمع كنزه ووضعه داخل المعطف ونزل للمنطقة المجاورة  وباع كل كنزه  وباع ايضا المعطف وجمع ثروته الطائلة التي تعدت حاجز الألوف بألوف وألوف ثروة لو استثمرها لاصبح من اثرى اثرياء المنطقة  و ذهب لامام المسجد وأخبره بكل ما حدث واعطاه كل المال و طلب منه ان يتصرف فيه بما يرضي الله وينفع الناس 
احاسيس مرتبكة مضطربة  اصابت  امام المسجد ماذا يفعل بكل ذلك المال لكنه اجمع كل قوته وسأل الشحاذ : هلا تركت لنفسك بعض المال؟
- لقد عشت اعواما واعوام لم  استفد بذلك المال ولم اصرفه ولم استثمره ولم يهمني في شيء عشت اعواما واعوام حياة الزهد لخداع الناس اما يحين لي ان اعيش حياة الزهد لأنفعهم و الله لن آخذ قرشا من ذلك المال
 وانصرف ليجلس في  مكانه المعهود بجوار المسجد لكنه لم يمد يديه للناس كما تعود فقط جالس ينظر للمارين
تاركا امام المسجد عيناه دامعتان يفكر في ذلك الشاب الذي قرر ان يتصدق بمعطف  ثمين على شحاذ فقير ليتطهر من آثامه فاذا بالمعطف الثمين يصبح نقطة تحول في حياة الشحاذ المسكين  كم شعر بالغبطة من الشاب والشحاذ و نظر للسماء ودعا ربه
الهي ما عبدتك حق عبادتك وما شكرتك حق شكرك  وما عرفتك حق معرفتك فتقبلني معهما يا رب واهدني لأن اصنع بذلك المال ما ترضى به عني وعنهم
ثم ذهب للشاب (علي ) الذي يعمل لديه محاسبا  وقص عليه القصة كاملة ليفكرا سويا فيما يمكن ان يصنعوه بتلك الثروة الطائلة  لكن (علي) فكر في شيء آخر اخرج آلته الحاسبة وصار يحسب الاموال ويضربها في سبعمائة ضعف ثم يضربها  ليرى ما تصدق به الشحاذ ثم يضربها في سبعمائة اخرى ما تصدق هو به ويضربها في عشرة اخرى  ليحسب اجر الفتاة التي القت بالمعطف لكنه اكتشف ان كل حسنة يقوم بها هي بسبب تلك الفتاة ولولاها ما تغير الا ان امام المسجد استوقفه قائلا : لا تحسب الحسنات كذلك انما هو فضل الله يؤتيه من يشاء و لا ندخل الجنة بعملنا انما بفضله وانما نفعل الحسنات لنتقرب لله حتى يدخلنا فضله .
في الصباح ما كان يشغل عقل علي هو استعادة المعطف مرة أخرى  لأنه رمز لتوبته  فذهب للمتجر الذي باع فيه الشحاذ المعطف وسألهم عليه  فقال له احد البائعين : لم ارى قط معطف بهذه الاوصاف بالتاكيد لم يكن هنا البارحة ربما متجرا آخر
اندهش علي هل بالفعل المعطف ليس له وجود؟ هل هو حقا شيء نشعر به فقط شيء يغير احوالنا  و يتلاشى فجأة من دنيانا 
الا ان بائع آخر  قال له : انه بالفعل كان هنا معطف ولكن اشتراه  رجل آخر بعد ان مشى الشحاذ بدقائق كأن المعطف يرفض ان يترك مقيدا داخل فاترينة او على جسد موديل ولو لثواني  , هل تريد مني ان اذكر لك اوصاف من اشتراه؟
- كلا , فانا على يقين ان من اشتراه يريد ان يعرف حقيقة  بداخله يجهلها
مرت الايام طويلة و اخيرا امام المسجد توصل لمشروع يرضي ربه  به عن الجميع  فقام بشراء قطعة الارض التي بجوار المسجد واتم توسيعه بل  وانشا مستوصفا خيريا بجوار المسجد واقام حجرة صغيرة بجوار المستوصف وحاول ان يقنع  الشحاذ ان يحيا في تلك الغرفة وان يعطيه اجرا من المستوصف لكن الشحاذ ظل رافضا  فاستعمل الامام سلاح الشحاذ وهو الالحاح  وقال له ان الله امرنا ان نستتر  وانت تستحق تلك الغرفة وذلك الاجر لا لما صنعته ولكنك شيخ عجوز لا تملك قوت يومك
اقتنع الشحاذ على مضد  ان يحيا في الغرفة  ومرت الايام عليه  يستغفر ربه ويطلب منه ان يرضى عنه وبجواره المرضى  في المستوصف ابتسامات الحزن على وجوههم حين يرونه  كأنهم بداخلهم يمتنون له ويدينون له بالشكر فيرد بابتسامة حزن اخرى  كأنه يقول انها اموالكم منكم وردت اليكم
و خر الشحاذ ميتا وعلى وجهه تلك الابتسامة  التي لم يطفئها ظلمة الموت بل اشراقة وجهه الصبوح لم  تغرب من محياه
يقال ان كل عائلات المنطقة كادت ان تتقاتل  ليدفن جثمانه في مدافنها  - لأنه بلا عائلة معلومة - الا ان الشيخ قرر عمل اقتراع بين  العائلات حتى يختار اين يدفن الشحاذ 
ويقال ايضا ان جنازته كانت مهيبة لم يتخلف عن السير فيها كبير او صغير من اهالي المنطقة كأن الذي مات لم يكن شحاذا بل كان شخصية مرموقة الكل يدين له
سمع الامام احدهم يقول  انا اكثر ايمانا منه فانا كنت احسن عليه  فأنا ذو اليد العليا التي هي خير واحب لله من اليد السفلى
فزجره الامام قائلا : خسئت الايمان ها هنا - واشار للقلب - لا بالمن  انه رجل ربما اذنب لكنه عاد وقام بتطهير امواله واموالكم قبل امواله
ثم نظر الامام للسماء  في اتجاه الشمس الغاربة قائلا لنفسه  كيف سيكون حالك ايها الامام حين تغادرك روحك كتلك الشمس هل ستكون صبوحا مشرقا مثله ؟
ومضى  في طريقه وهو يصارع دموعه التي تأبى الا ان تسيل  
بقلم المبدع مصطفى سيف

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

رائعه يا مصطفى و مختلفه كما عودتنا...أشكرك إنك أضفت للقصة جمال و روحانيه بهذا الجزء البديع :)
تحياتي و كل التقدير لك

ابراهيم رزق يقول...

دائما شهادتى فيك مجروحة يا مصطفى
لكن دائما مبدع

تحياتى و تقديرى